المؤمن ليس ملكا لنفسه
اشرنا سابقا الى قول البعض ان المشكلة ليست بالضرورة في الله بل في المؤمن نفسه اذا تراجع عن ايمانه بارادته ولم يعد يريد ان يحيا كمؤمن، فيخسر خلاصه نتيجة لذلك. ولكننا نقول ان هذا الفكر يمكن ان يكون صحيحا لو ان المؤمن هو ملك لنفسه. فالمؤمن كان قبل الايمان عبدا لابليس الشرير وابنا للغضب والهلاك ، اما بعد الايمان فانه اصبح ملكا لله الذي اشتراه لنفسه بثمن باهظ جدا، فطهره من الخطية ووضع فيه روحه القدوس كما يقول الوحي المقدس"ام لستم تعلمون ان جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وانكم لستم لانفسكم. لانكم قد اشتريتم بثمن..." 1كو6: 19و20. فمن اين للمؤمن السلطان لكي يتصرف بنفسه كما يشاء وهو ليس ملكا لنفسه؟ ثم ان سكنى الروح القدس في المؤمن هو الختم الالهي على ثبات وعد الله بخلاص المؤمن الى الابد كما هو مكتوب "...الذي فيه (اي المسيح) ايضا اذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس، الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتنى (اي الى حين فداء الاجساد بالقيامة) لمدح مجده" اف1: 13و14 "لان مهما كانت مواعيد الله فهو فيه النعم وفيه الآمين لمجد الله بواسطتنا. ولكن الذي يثبتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله. الذي ختمنا ايضا واعطى عربون الروح في قلوبنا" 2كو1: 20-22. فمن يستطيع ان ينزع الختم الالهي او الروح القدس من شخص اشتراه الله وخصصه لنفسه؟ فان كان ختم الملوك او الدوائر الرسمية على اي شيء يبقى مفعوله مستمرا الى الابد، فكيف لا يكون ختم الله على المؤمن مستمرا الى الابد؟ ولكن ربما سائل يسأل، هل اذا تصرف المؤمن بشكل غير مرضي امام الله يبقى الروح القدس ساكنا فيه؟ كلمة الله تجيب "ولا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء (اي فداء الاجساد بالقيامة)" اف4: 30. فمع ان هذه الآية تدعو الى السلوك المقدس لكي لا يحزن الروح القدس في المؤمن، الا انها نفسها تؤكد على ان الروح القدس انما هو ختم يستمر ليوم الفداء، اي الى يوم قيامة الاجساد عند مجيء المسيح لاختطاف المؤمنين الاحياء والراقدين. فماذا اذا؟ ما الذي يحصل في حالة احزان الروح القدس؟ الجواب هو ما سبق واشرنا اليه حول الشفاعة والتأديب. وفي هذه الحالة، اي احزان الروح القدس، يفقد المؤمن بهجة الخلاص، وليس الخلاص نفسه. ولكن الروح القدس لا يفارقه مطلقا. والله في رحمته ونعمته ومحبته يعمل على رد نفس المؤمن المخطىء عند الاعتراف بخطاياه، كما فعل النبي داود الذي تعرض للتأديب الالهي بسبب خطاياه المشهورة والمشينة، اذ طلب من الله مسترحما "اسمعني سرورا وفرحا. فتبتهج عظام سحقتها (بسبب التأديب). استر وجهك عن خطاياي وامح كل آثامي...لا تطرحني من قدام وجهك. وروحك القدوس لا تنزعه مني. رد لي بهجة خلاصك. وبروح منتدبة اعضدني" مز51: 11و12. وقد استجاب الله طلبة داود لانه كان مؤمنا حقيقيا.
المحبة لا تسقط ابدا
من أشهر الكلمات المجيدة والخالدة التي تكلم بها ربنا يسوع المسيح، هذه الآية الذي يحفظها عن ظهر قلب اكثر المسيحيين في العالم، وكثير من غير المسيحيين ايضا، وهي "لانه هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الابدية" يو3: 16. هذه الآية تلخص كل الانجيل وكل الافكار الالهية الصالحة تجاه بني البشر. فمحبة الله هي الاساس لكل بركة روحية وزمنية يتمتع بها المؤمنون. وهي عظيمة بغير ما حدود. فلا طول ولا عرض ولا علو ولا عمق يمكن ان يدركها او يصل الى نهايتها. انها الله نفسه له كل المجد "الله محبة" 1يو4: 8و16. لذلك فان مفعول المحبة الالهية لا يمكن ان يتلاشى ابدا. فان هدف الله من محبته الباذلة كان "لكي لا يهلك كل من يؤمن بالمسيح". فهل من المعقول ان الذي قال في كلمته الحية المقدسة "المحبة لا تسقط ابدا..." 1كو13: 8 يمكن ان تسقط محبته هو تجاه ضعف المؤمن؟ هل يمكن ان الله يسقط؟ حاشا لاسمه القدوس المبارك. فكيف يمكن اذا ان الله الذي بذل ابنه الوحيد الحبيب ليخلص الخطاة والاشرار والاعداء ويهبهم الحياة الابدية، يعود ويسحب من المؤمنين الخلاص في اي ظرف من الظروف؟ حاشا. فمحبته لا يمكن ان تسمح بحصول هذا ابدا. فان كان الله بمحبته قد صالح الخاطىء معه في صليب ابنه، فكيف يعود ويرفض او يهلك مؤمنا وثق بمحبته فتصالح معه؟ يقول الكتاب في هذا "ولكن الله بين محبته لنا لانه ونحن بعد خطاة مات المسيح لاجلنا. فبالاولى كثيرا (فكم بالحري) ونحن متبررون الان بدمه نخلص به من الغضب. لانه ان كنا ونحن اعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه، فبالاولى كثيرا (فكم بالحري) ونحن مصالحون نخلص بحياته" رو5: 8-10. فهذه الآية التي تؤكد ان "موت المسيح" قد صالح الخطاة والفجار مع الله، تؤكد ايضا ان "حياة المسيح" في المجد الان كالشفيع هي التي تحفظ المؤمنين في دائرة الخلاص الابدي الكامل. فلا يوجد ما او من او اية حالة يمكنها ان تعطل عمل محبة الله والمسيح للمؤمن "من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة ام ضيق ام اضطهاد ام جوع ام عري ام خطر ام سيف؟...ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا. فاني متيقن انه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا امور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة اخرى تقدر ان تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا" رو8: 35-39. فاذا كانت محبة الله لا يمكنها ان تعطي السلام للقلب والراحة للضمير، فاي شيء آخر في الكون يمكنه ان يفعل هذا؟ واذا كانت محبة الله التي هي اقوى قوة في الكون لا يمكنها ان تضمن خلاص مؤمن ضعيف تعلق بهذه المحبة، فمن وماذا يا ترى يستطيع ان يعطي معنى للرجاء والفرح والسلام؟ "لا خوف في المحبة. بل المحبة الكاملة تطرح الخوف الى خارج. لان الخوف له عذاب. واما من خاف، فلم يتكمل في المحبة" 1يو4: 18.
سفر الحياة واختيار الله
قال الرب يسوع مرة لتلاميذه المبتهجين بالسلطان الذي منحهم اياه لصنع المعجزات "ولكن لا تفرحوا بهذا، ان الارواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري ان اسماءكم كتبت في السموات" لو10: 20. المقصود هنا ان اسماء المؤمنين كتبت في سفر الحياة كما يقول الرسول بولس "...وباقي العاملين معي، الذين اسماؤهم في سفر الحياة" في4: 3. فالمؤمن الحقيقي يمكن ان يهلك اذ تمكن احد من الوصول الى السجلات الالهية، وشطب اسمه من هناك. فهل يمكن ان يحصل هذا الامر؟ وان قال احد ان الله بامكانه ان يشطب اسم مؤمن مسجل في سفر الحياة، نقول ان هذا يعني ان اختيار الله لهذا المؤمن قبل تأسيس العالم وتسجيل اسمه في سفر الحياة كان اختيارا خاطئا؟ وحاشا ان يخطىء الله في اختياره. فالكتاب يقول "كما اختارنا فيه (اي في المسيح) قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة" اف1: 4. والوحي المقدس على لسان الرسول بولس يسأل هذا السؤال المهم "من سيشتكي على مختاري الله؟ (ويجيب) الله هو الذي يبرر" رو8: 33. اي ان كان الله قد برر المؤمنين الذين اختارهم فمن يستطيع ان يشتكي عليهم؟ ان مثل هذه الشكوى تتضمن تشكيكا بحكمة الله في اختياره وتبريره للمؤمنين. وحاشا لله ان يكون غير مدرك لما يفعله او مخدوعا بمن يختاره، ولو كان منذ الازل. ولكن رب معترض يقول ان هلاك المؤمن الحقيقي امر ممكن، بناء على الآية التي تقول "من يغلب فذلك سيلبس ثيابا بيضا ولن امحو اسمه من سفر الحياة وسأعترف باسمه امام ابي وامام ملائكته" رؤ3: 5. فيقول ان هذه الاية تشترط غلبة المؤمن على الشر والخطية والشيطان، والا فالمسيح سيمحو اسمه من سفر الحياة. الا ان هذا القول لا اساس له من الصحة، اذا ما ادركنا ان قصد المسيح بالغالب هنا ليس هو المؤمن المجاهد في الحياة الروحية، بل هو غير المؤمن عندما يقبل الايمان، حيث يلبسه المسيح بره (الثياب البيضاء) ويعده بان اسمه لن يمحى من سفر الحياة. فهذه الاية تؤكد عدم امكانية هلاك المؤمن الحقيقي ابدا. وكلمة الله تحدد معنى كلمة الغالب بالقول "لان كل من ولد من الله يغلب العالم. وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم: ايماننا. من هو الذي يغلب العالم الا الذي يؤمن ان يسوع هو ابن الله" 1يو5: 4و5 "وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم ولم يحبوا حياتهم حتى الموت" رؤ12: 11. فليس المقصود اذا ان المؤمن يمكن ان يمحى اسمه من سفر الحياة اذا لم يغلب العالم والشر والخطية، مع العلم انه مدعو للجهاد ضد هذه الاشياء في حياته العملية كمؤمن، بل المقصود هو ان الخاطىء عندما يؤمن ايمانا حقيقيا بالمسيح المخلص، محتميا بدمه، ومولودا من روحه القدوس (وهذه هي الغلبة)، فلن يمحى اسمه من سفر الحياة. فان المسيح الذي غلب الشيطان والموت والخطية بموته وقيامته، قد وهب هذه الغلبة لكل من يؤمن به، محررا اياه من اسر الخطية والشيطان والهلاك بحيث يستطيع ان يترنم مع جميع المفديين "ولكن شكرا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" 1كو15: 57 "ولكن شكرا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين، ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان" 2كو2: 14. فكيف يمكن ان يهلك المؤمن الحقيقي اذا؟
جسد المسيح
من المعروف ان المؤمنين يشكلون جسد المسيح السري على الارض وهو الرأس "واما انتم فجسد المسيح واعضاؤه افرادا" 1كو12: 27 "واخضع كل شيء تحت قدميه، واياه جعل رأسا فوق كل شيء للكنيسة، التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكل في الكل" اف1: 22و23. فكل مؤمن حقيقي يشغل في جسد المسيح مركزا معينا لا يمكن لاحد غيره ان يشغله، وذلك بناء على تعيين مسبق من الله الكلي الحكمة كما هو مكتوب "واما الآن فقد وضع الله الاعضاء كل واحد منها في الجسد كما اراد" 1كو12: 18. فكيف يمكن ان يهلك مؤمن حقيقي عضو في جسد المسيح؟ كيف يقطع الله اعضاء جسد المسيح ويلقيها في النار؟ وهل يمكن ان يكون جسد المسيح مقطع الاوصال؟ حاشا له. وهل يمكن ان المسيح يبغض جسده فيقطع منه بعض الاعضاء لسبب او لآخر؟ حاشا لاسمه القدوس المبارك "فانه لم يبغض احد جسده قط، بل يقوته ويربيه كما الرب ايضا للكنيسة. لاننا اعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه" اف5: 29و30.
مفاهيم خاطئة
عندما تحدث الرسول بطرس في رسالته الثانية عن صحة رسائل الرسول بولس كجزء من كلمة الله الموحى بها، اشار الى ان "...فيها اشياء عسرة الفهم، يحرفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب ايضا لهلاك انفسهم" 2بط3: 16. وما حذر منه الرسول بطرس وقع فيه كثيرون، بحيث ادت تفسيراتهم غير المتوافقة مع الحق الى نشوء تعاليم مضللة. ومن هذه التعاليم فكرة امكان هلاك المؤمن الحقيقي التي نشأت من تفسير آيات بغير معناها المقصود ووضعها في غير مكانها الصحيح مثل "وتكونون مبغضين من الجميع من اجل اسمي. ولكن الذي يصبر الى المنتهى فهذا يخلص" مت 10: 22. والقسم الاخير من هذه الاية مكرر في متى13: 24. فالمفهوم بحسب الظاهر من هاتين الآيتين ان الخلاص مرتبط بشرط الصبر، والا فان المؤمن يمكن ان يخسر خلاصه اذا لم يصبر. ولكن بالعودة الى النصوص نرى ان الرب كان يخبر التلاميذ عما سيحدث في فترة الضيقة العظيمة بعد اختطاف الكنيسة من اضطهادات مرة وقتل للمؤمنين، وليس عن خلاص نفوسهم في فترة النعمة الحاضرة. كما ان الخلاص المقصود في الاعداد المذكورة ليس خلاص النفوس على اساس الايمان بالرب يسوع المسيح غافر الخطايا، بل الخلاص الجسدي من الضيق للذين سيصبرون في الاضطهادات خلال الضيقة العظيمة، عندما يأتي المسيح ليملك على الارض ملكه الالفي السعيد، حيث سيكون هؤلاء المؤمنون رعايا ملكوته. وقد اوضح الرب ان المقصود هو خلاص الاجساد من الضيق لا الارواح من الخطية بقوله "لانه يكون حينئذ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم الى الان ولن يكون. ولو لم تقصر تلك الايام لم يخلص جسد. ولكن لاجل المختارين تقصر تلك الايام" مت 24: 21 و 22".
ومن الآيات التي يستند اليها الذين يعتقدون بامكانية هلاك المؤمن الحقيقي قول الرسول بولس "بل اقمع جسدي واستعبده، حتى بعدما كرزت للآخرين لا اصير انا نفسي مرفوضا" 1كو9: 27. فهؤلاء "المعلمون" يظنون ان المعنى هنا يتضمن امكانية هلاك المؤمن الحقيقي في حالات معينة. الا ان الرسول هنا لا يتحدث عن الخلاص لا من قريب ولا من بعيد، وانما في كل الاصحاح يتحدث عن خدمة الانجيل والشهادة له بتكريس كامل في حياة مقدسة وتقوية عمليا، لئلا تتشوه الخدمة والشهادة، ويصبح هو مرفوضا ككارز، لان حياة الخادم المقدسة هي التي تعطي المصداقية لما يكرز به، والا، فالرفض المطلق للكارز ولموضوع الكرازة هو البديل. وليس المعنى هنا ان بولس الرسول يمكن ان يخسر حياته الابدية او خلاصه لسبب او لآخر.
اخيرا نقول ان ما استعرضناه هنا ليس هو كل شيء، اذ اننا لم نتحدث عن بنوية المؤمنين الحقيقيين لله ولا عن فاعلية دم المسيح المطهر التي لا تزول ولا عن حقائق اخرى كثيرة تستحق ذكرها لتأكيد عدم امكانية هلاك المؤمن ابدا.كما اننا لم نتحدث عن كل الآيات التي تفسر بشكل مغلوط لتوحي بامكانية هلاك المؤمن الحقيقي. ونرجو الا يظن احد ان هذه الدراسة تساهم في تشجيع المؤمنين على العيش بالاستهتار والرخاوة الروحية على اعتبار ان خلاصهم لن ينزع منهم بأي حال من الاحوال، بل اننا واثقون انها ستزيد المؤمنين الحقيقيين تمسكا بالايمان الاقدس المسلم مرة للقديسين، شعورا منهم بامانة الله من نحوهم ورحمته الكثيرة التي رحمهم اياها على رغم ضعفاتهم الكثيرة وعدم استحقاقهم. له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع الى ابد الآبدين. آمين.
ادمون الآغا